“فتح _ حماس الكلاسيكو الفلسطيني” – الكلاسيكو الذي لا ينتهي – محمد المشهداني – بغداد

محمد المشهداني – بغداد
الكلاسيكو الذي لا ينتهي _
في المشهد الفلسطيني، لا يوجد صراع يضاهي في عمقه و أستمراره وتأثيره الصراع بين حركة فتح وحركة حماس. إنه ليس مجرد خلاف سياسي عابر، بل هو كلاسيكو وطني مفتوح منذ أكثر من ثلاثة عقود، يتجاوز حدود البرامج الحزبية إلى صراع على الهوية الوطنية، وشرعية التمثيل، وطبيعة المشروع التحرري الفلسطيني.
ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أن الخلاف بين الحركتين فتح و حماس هو “تنافس طبيعي في الساحة السياسية”، يراه الأخرون أنه الجذر الأزمة الفلسطينية التي عطلت مسار التحرير وأضعفت وحدة القرار السياسي الفلسطيني ، حتى غدا المشهد الداخلي أكثر أنقساماً من أي وقت مضى.
جذور التناقض – من الفكرة إلى السلاح _
تعود جذور هذا الصراع إلى تباين فكري عميق بين الحركتين:
حركة فتح _ التي أنطلقت في أواخر عقد الخمسينيات على يد الأستاذ أحمد الشقيري و الراحل الرئيس ياسر عرفات ورفاقه، كانت حركة قومية ثورية ذات طابع وطني شامل. رأت أن القضية الفلسطينية هي قضية تحرر وطني قبل أن تكون دينية، ورفعت شعار “الكفاح المسلح طريق التحرير”.
ومع مرور الزمن، وخاصة بعد أتفاق أوسلو العام 1993، تحولت حركة فتح تدريجياً إلى حركة سلطة أكثر منها حركة تحرر، فتبنّت الواقعية السياسية والمفاوضات كوسيلة لتحقيق الدولة الفلسطينية.
أما حركة حماس _ التي وُلدت في أتون الأنتفاضة الأولى العام 1987، فكانت أستجابة إسلامية صريحة لهيمنة التيار القومي على القرار الفلسطيني.
حيث أستندت إلى المرجعية الإسلامية، و أعتبرت فلسطين “وقفاً إسلامياً لا يجوز التنازل عن شبر منه”.
ومنذ بدايتها، وضعت حركة حماس نفسها في موقع المعارضة لنهج أتفاقية أوسلو ومشروع التسوية، مقدمة نفسها كصوت المقاومة والرفض.
وهكذا وُلدت ثنائية فكرية وسياسية متناقضة:
حركة فتح الواقعية السياسية في مواجهة
حركة حماس العقائدية المقاومة.
وبين الواقعية والمبدئية، بدأت رحلة الصراع الطويل.
من الشراكة إلى الأنقسام – الطريق إلى 2007 _
حين أُجريت الإنتخابات التشريعية في العام 2006، كان الشعب الفلسطيني يعيش حالة من الإحباط من أداء السلطة وفساد مؤسساتها، فصوّت بكثافة لحركة حماس التي رفعت شعار “الإصلاح والتغيير”.
بعدها فازت حركة حماس في الأغلبية، لتتحول لأول مرة من قوة معارضة إلى قوة حاكمة.
و لكن الإنتصار لم يتحول إلى شراكة سياسية حقيقية إذ رفضت حركة فتح ومعها المجتمع الدولي نتائج الإنتخابات طالما لم تعترف حركة حماس في إسرائيل أو في أتفاق أوسلو.
و بعدها تفاقمت التوترات وبدأت الأشتباكات المسلحة في قطاع غزة حتى جاءت أحداث شهر يونيو العام 2007. التي إنتهت في سيطرة حركة حماس الكاملة على قطاع غزة و بينما بقيت الضفة الغربية تحت إدارة حركة فتح والسلطة الفلسطينية.
و منذ ذلك الحين دخل الشعب الفلسطيني في مرحلة الأنقسام السياسي والجغرافي وهي الأخطر في تأريخه المعاصر.
فأصبح هناك حكومتان وبرلمانان وأجهزتان أمنيتان، وبرنامجين سياسيين متناقضين و بدلاً من أن توحّد المقاومة الشعب أصبح السلاح نفسه جزءاً من الصراع الداخلي.
الأنقسام كأداة إدارة لا كأزمة _
لم يعد الأنقسام الفلسطيني بعد العام 2007. مجرد واقع مؤقت في أنتظار المصالحة بل تحول مع الوقت إلى أداة حكم لدى الطرفين.
و كل من حركة فتح وحركة حماس وجدت في الأنقسام مساحة مريحة لممارسة سلطتها دون مساءلة.
حركة فتح أحتفظت في الشرعية الدولية والدعم المالي والسياسي الغربي والعربي و أستمرت في إدارة مؤسسات الدولة والتمثيل الدبلوماسي.
حركة حماس رسّخت سلطتها في قطاع غزة عبر حكم مركزي قوي ومؤسسات مدنية وأمنية خاصة بها حتى غدت في مثابة دولة داخل الحصار.
ورغم الخطاب العاطفي حول الوحدة الوطنية فإن الطرفين باتا يدركان أن الوحدة قد تهدد مصالح كلٍّ منهما في مناطق نفوذها و لذلك أصبحت المصالحة ورقة سياسية تُستخدم أكثر مما تُطبّق، يتم تحريكها عند الحاجة إلى كسب الوقت أو الضغط السياسي.
بين المقاومة والتسوية –
شرعيتان تتنازعان التمثيل _
الجوهر الحقيقي للصراع بين حركتي فتح وحماس هو صراع الشرعي تين _
- شرعية المقاومة التي تتبناها حركة حماس وتعتبرها الطريق الوحيد لتحرير فلسطين.
بحيث ترى حركة حماس أن أتفافية أوسلو كان خطيئة سياسية، وأن كل تنازل عن الأرض هو خيانة لتاريخ النضال الفلسطيني.
ومن خلال مواجهاتها العسكرية مع إسرائيل، خاصة في حروب قطاع غزة المتكررة، كرّست نفسها كرمز للمقاومة.
- شرعية التمثيل الدولي والسياسي التي تتمسك بها حركة فتح من خلال منظمة التحرير الفلسطينية.
بحيث حركة فتح ترى نفسها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية.
تعتمد على الشرعية السياسية والدبلوماسية لبناء الدولة الفلسطينية عبر المفاوضات والأعتراف الدولي.
و هذا الصراع جعل من أي مشروع وطني جامع أمراً مقعداً فبينما تسعى حركة حماس لتثبيت “مشروع المقاومة”، و تسعى حركة فتح لتثبيت “مشروع الدولة”.
وبين المشروعين، يضيع مشروع الوحدة الوطنية.
التأثير الإقليمي –
الكلاسيكو في الملعب العربي المفتوح _
لم يكن هذا الصراع بمعزل عن محيطه الإقليمي، بل أصبح جزءاً من التوازنات العربية والإسلامية:
حركة فتح حظيت بدعم عربي رسمي من دول مثل مصر والأردن والسعودية، التي تفضل إستقرار السلطة الفلسطينية ومشروع التسوية.
حركة حماس حظيت بدعم من إيران وقطر وتركيا وما منحها قوة سياسية ومالية وعسكرية كبيرة، خصوصاً في ظل الحصار المفروض على قطاع غزة.
ومع كل تغير في التحالفات الإقليمية، كانت أوراق الكلاسيكو الفلسطيني تُعاد خلطها.
فحين أشتعلت المنطقة بعد “الربيع العربي”، أزداد الصراع حدة، إذ حاولت حركة حماس توسيع نفوذها الإقليمي بينما أعادت حركة فتح تثبيت موقعها في النظام العربي التقليدي.
ما بعد الحروب – المقاومة بين البطولة والعب _
تكررت جولات الحرب في قطاع غزة: 2008، 2012، 2014، 2021، وأخيراً حرب 2023 وما بعدها.
في كل مرة، كانت حركة حماس تخرج أقوى ميدانياً وأضعف سياسيا و بينما كانت السلطة الفلسطينية وحركة فتح تخرج أضعف شعبياً وأقوى دولياً.
هكذا، ظل ميزان القوى الداخلي في حالة تعادل سلبي لا أحد قادر على حسم المعركة أو تجاوز الآخر.
ومع تزايد المعاناة الإنسانية في قطاع غزة و أستمرار الإحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية أصبح المواطن الفلسطيني الضحية الأولى لهذا الكلاسيكو الطويل.
في أفق المستقبل –
هل من نهاية للكلاسيكو؟ _
و رغم مرور أكثر من 17 عاماً على الأنقسام الفلسطيني و لا تبدو في الأفق بوادر حقيقية لإنهائه
فالمصالحة تحتاج إلى إرادة سياسية صادقة ورؤية وطنية جامعة وجرأة في كسر مصالح السلطة.
لكن الواقع يشير إلى أن الأنقسام أصبح مؤسسياً ، أي أنه لم يعد حادثاً أستثنائياً بل نظام حكم مزدوج يحافظ عليه الجميع بطرق مختلفة.
ورغم ذلك، يظل الأمل قائماً.
فالوحدة ليست خياراً رومانسياً بل ضرورة وجودية، لأن القضية الفلسطينية تواجه أخطر مراحلها في ظل التغيرات الإقليمية، و أتساع رقعة التطبيع العربي، وتآكل الأهتمام الدولي.
وحدها وحدة المشروع الوطني قادرة على إعادة الأعتبار لفلسطين كقضية تحرر، لا كملف إنساني أو إداري.
الكلاسيكو الذي ينتظر صافرة الشعب _
يبقى الصراع بين حركة فتح و حركة حماس
مرآة التناقضات في الوعي الفلسطيني بين الحلم والواقع، وبين المقاومة والسياسة، وبين الدولة والتحرير.
لكن مهما طال هذا “الكلاسيكو”، فإن صافرة النهاية لن يطلقها أحد غير الشعب الفلسطيني نفسه، حين يقرر أن الأنقسام لم يعد يخدم إلا المصلحة الخارجية وأن طريق الحرية لا يمر عبر رام الله أو قطاع غزة وحدهما، بل عبر وحدة الإرادة الوطنية التي تتجاوز القوى والأحزاب والحركات السياسية إلى روح فلسطين ذاتها.
محمد المشهداني _




